كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد
جعل الله -سبحانه وتعالى- بداية الإنسان ونهايته علامة على عجزه وضعفه،
وعلى قهر الرب -عز وجل- وجبروته، فالله -عز وجل- هو "الجبار"، وقد ورد هذا
الاسم في كتاب الله في سورة "الحشر"، وكذلك ورد في سنة رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-.
المعنى الأول لاسم الله "الجبار":
الله -عز وجل- هو "الجبار" أي: الذي له مطلق الجبروت والعظمة، وهو يحمل معنى القهر كاسم الله "القهار".
وقد جاء في تفسير السلف -رضوان الله عليهم- عبارات مثل: "الذي جبر العباد على ما أراد" فقد جبر القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها،
وهذا
لا يقتضي مذهب "الجبرية" الباطل من نفي مشيئة العباد، ونسبة الظلم إلى
الله -عز وجل-، وإبطال الشرع، وجعل الحسنات كالسيئات، والذين يحتجون بمثل
هذه الآثار الواردة عن السلف في تفسير اسم "الجبار"، فيقولون: إن "الجبار"
-سبحانه وتعالى- قد جبر العباد أي: أجبرهم وأرغمهم دون إرادة منهم على فعل
أفعالهم، فقد ظنوا أن جبر الله في القلوب كجبر الظالم للمظلوم؛ فقالوا بهذا
الباطل!
والله
-سبحانه وتعالى- أعز وأعلى من أن يجبر العباد على فعل ما يريد دون إرادة
منهم، بل معنى جبره -عز وجل- لهم وسلطانه وقهره فوقهم: "أنه جعلهم يفعلون
بإرادتهم ما أراد -سبحانه وتعالى- أن يفعلوه".
فجبر الله في القلوب لا يعني إلغاء مشيئة العباد، وإنما يعني أن الله -سبحانه وتعالى- يجعلهم يفعلون ما يريدون بإرادتهم واختيارهم الذي خلقه الله -عز وجل- لهم.
جبر الله، وجبر المخلوق:
فجبر
الله -سبحانه وتعالى- ليس كجبر المخلوق للمخلوق، فالمخلوق لا يملك قلب
غيره، بل ولا قلب نفسه، فالمخلوق إذا أراد أن يجعل غيره يفعل فعلاً معينًا؛
أمره به، فإذا امتنع؛ لم يجد بدًّا من أن يكرهه؛ لأن إرادة ذلك الغير لا
يملكها، فيضطر إلى إكراهه بالضرب أو التعذيب أو السجن أو التهديد بالقتل أو
غير ذلك مما يفعله الجبارون، وذلك؛ لعجزه عن تغيير قلب خصم، وقد وصف الله
-عز وجل- هؤلاء الجبارين بالخيبة، فقال: (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) (إبراهيم:15).
فجبروت الله -تعالى- ليس فيه إكراه، فهو -سبحانه- لا يحتاج إلى ذلك، بل يأمر بما يشاء، فيقول له: كن فيكون.
الإكراه عجز وليس بعزة:
فالإكراه
مقام عجز وضعف، وإن كان الكثيرون يظنون أنه مقام عزة فيتمنون أن يكونوا
جبابرة، أما الله -سبحانه وتعالى- فإنه أعلى سلطانًا وقهرًا من أن يحتاج
إلى إكراه العباد، بل لو شاء لجعلهم أمة واحدة: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس:99)، فقد جعل الله -سبحانه وتعالى- مشيئة العباد خلقًا من خلقه، فلا يشاءون إلا أن يشاء الله: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ . وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير:28-29).
فهو عز وجل- مقلب القلوب يصرِّفها كيف يشاء، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ) (رواه مسلم).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعائه: (أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) (رواه مسلم)، وقال هود -عليه السلام-: (إِنِّي
تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ
هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (هو:56)،
أي أن أمرها كله ملك لله -عز وجل-، فيوجه الله المخلوق حيث شاء، فقد بيَّن
الله لهم النجدين -الطريقين-، فحق القول على الذين ظلموا.
فما ظلم الله عباده مثقال ذرة، بل خلق الخلق بأسباب، وجعل من أسباب خلقه أفعال عباده، ومنشؤها مِن إرادتهم وقدرتهم المخلوقة،
فقد جعل الله -سبحانه وتعالى- مشيئة للعباد تقع بها أفعالهم، كما أن الولد
يُخلق مِن أبيه وأمه، والله خالقه، وخالق أبيه وأمه؛ إلا أن الله -عز وجل-
جعل الوالدين سبب في وجود الولد، فلا يمكن لعاقل أن يدعي عدم الأثر وعدم
أهمية وجود الوالدين، وكذلك لا يجوز لعاقل فضلاً عن مؤمن بالكتاب والسنة
والشرع أن يقول: "لا ضرورة ولا فائدة لإرادة الإنسان أو لقدرته"!
جبر بحساب.. وجبر بلا حساب:
فالله
-عز وجل- جبر القلوب على ما أراد، فبفعلهم يفعلون بمشيئتهم واختيارهم،
وأما الجبر الذي من غير مشيئة فهو جبرهم على الموت والحياة، والطول والقصر،
والذكورة والأنوثة، وغير ذلك.. فهذا مما لا اختيار لهم فيه، فلا يحاسبهم
الله -عز وجل- ولا يثيبهم أو يعاقبهم عليه، وإنما يحاسبهم الله -عز وجل-
على أفعالهم التي صدرت باختيارهم وبإرادتهم، فهذا معنى جبر القلوب على ما
أراد لها.
وبالتالي
فجبر عباده ليس بمعنى قول "الجبرية" في نفي مشيئة العباد أو نفي قدرتهم،
ومِن ثَمَّ نفي التكليف والشرع أمرًا ونهيًا، فهذا كله باطل؛ إذ إن القرآن
أثبت خلافه، بل إن كل عاقل يجد من نفسه خلاف ذلك، إذ أن هناك أشياء يفعلها
العبد بإرادته وأشياء لا دخل لإرادته فيها، والثواب والمدح والذم تبع
لأفعال العباد الاختيارية من حيث موافقتها أو مخالفتها لشرع الله -سبحانه
وتعالى- الذي له مطلق الجبروت، وكلمة "جبروت" مصدر من الجبر، فجبر جبروت
مثل: ملك ملكوت، والذي له الجبر أي: القهر.
معاملة اسم الجبار -بمعناه الأول- بما يقتضيه من فعل العبد:
يظهر
لأهل الإيمان المستحضرين لاسم "الجبار" أن أفعالهم وأقوالهم وأفعال العباد
جميعًا ما هي إلا بأمر الله -عز وجل-؛ فهو خالقها، فإذا رأوا نعمة الله
عليهم بالإسلام، ومنته عليهم بالإيمان؛ علموا أن أفعالهم وصفاتهم سبقها أمر
وتقدير من الله، وإذا رأوا المنكرات والمعاصي والكفر والنفاق؛ استشعروا
خذلان الله لهم، وعلموا أن الله هو الذي قدَّر ذلك؛ فخافوا أن يخذلهم الله
كما خذل هؤلاء.
وإذا
ما استحضر العبد هذه المشاهد؛ شهد عدل الله -عز وجل- وحكمته في وضع
الأشياء في مواضعها، فهو -سبحانه- أعلم بالظالمين، وأعلم بالشاكرين، فلا يضع الله -سبحانه وتعالى- البذرة الطيبة في الأرض الخبيثة، فالقلوب الخبيثة لا تناسبها الأعمال والأقوال الطيبة (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) (النور:26)، فالطيبات من الأعمال والأقوال للطيبين من الناس، فلا يُهدى إنسان خبيث لعمل أو قول طيب (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ) (النور:26).
فيشهد
أهل الإيمان حكمة الله -عز وجل- وعدله، ويرون فضله، فيخافون على أنفسهم
ويرجون فضل ربهم -سبحانه وتعالى-، وإذا ما رأوا جبروت الطغاة والكافرين؛
علموا أن الجبروت والعظمة لله وحده، فلا يتجبرون؛ إذ لا يوصف المؤمن بهذه
الصفة أو يُسمى بهذا الاسم أبدًا.
اسم "الجبار" ومعنى ثانٍ لهذا الاسم:
وأما المعنى الثاني من معاني هذا الاسم فهو معنى: جبر الكسر وإصلاحه، فهو -سبحانه- الذي يجبر كل ذليل وكسير مما ألم به، ويصلح شأن كل محتاج وفقير.
معاملة اسم الجبار -بمعناه الثاني- بما يقتضيه من فعل العبد:
ويحسن بالعباد أن يتصفوا بهذا المعنى بما يليق بهم منه، كما يحسن بهم أن يتصفوا بصفة الرحمة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) (رواه الإمام أحمد والترمذي، وصححه الألباني)،
وكما يحسن بالعبد أن يتصف من الطهارة بما يليق به في دعاء العبادة لاسم
الله "القدوس"، فما يليق بالرب لا يمكن أن يرقى إليه مخلوق.
شهود آثار اسم الله "الجبار" بمعناه الثاني:
إذا
ما استحضر العبد معاني هذا الاسم؛ انكسر لله بأنواع الانكسار كلها، وشهد
حاجته وفاقته الشديدة إلى ربوبية الله -عز وجل- وألوهيته، فالعبد فقير إلى
ربه في الهواء الذي يتنفسه، وفي شرابه الذي يشربه، وفي طعامه الذي يأكله،
بل في كل نفس من أنفاس حياته، والله وحده هو الذي يجبر هذه الحاجة وهذا
الضعف والعجز بفضله ومنِّه-سبحانه وتعالى-.
وهو
يحتاج إلى الله -عز وجل- خالقًا رازقًا، فيحتاج أن يحب الله، ففي القلب
حاجة وفاقة لا يسدها إلا التعبد والتأله لله -عز وجل- وحده لا شريك له.
فإذا
ما استحضر العبد ذلك واستحضر أنه فقير إلى الهداية والتوفيق والإعانة على
العبادة من الله؛ انكسر ولم يتعزز بطاعة أو بمنزلة أو حال، ولم ير لنفسه
فضلاً على غيره، فضلاً عن أن يرى لنفسه فضلاً على الله -عز وجل- تعالى الله
عن ذلك علوًّا كبيرًا، ففي فاقته إلى الربوبية والألوهية، إلى الرب
والإله، إلى الرزق والعبادة انكساره وتذللـه لله، فيجبر الله كسره.
وإذا ما استحضر العبد المؤمن أنه يخطئ بالليل والنهار كما جاء في الحديث القدسي: (يَا
عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا
أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ) (رواه مسلم)، ورأى معاصيه ورأى نعم الله عليه؛ فذلك يكسره انكسارًا ناشئًا عن شهود كثرة الذنوب والمعاصي، واستحضار نعم الله المنهمرة المتتابعة.
انكسار ناشئ عن الحاجة والفقر:
يجبر الله -عز وجل- انكسار العبد إذا ما قال العبد: "رب اغفر لي وتب علي" فيقيل الله عثرته، ويقبل اعتذاره وتوبته.
وهناك
انكسار يجبره الله للعبد بحبه لربه -عز وجل-، فيجبره الله بأعلى ما يجبر
به عبد، وذلك بأن يكون محبوبًا عند الله -عز وجل-، إذا أتبع حبه لله -عز
وجل- بطاعة نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُم) (آل عمران:31).
وبهذا
يتحقق كمال العبودية، ومَن لا يرى فاقته وحاجته، ولا يشعر بالذل والانكسار
لله -سبحانه وتعالى-، ولا يرى ذنوبه، أو لا يستشعر حبه لربه؛ فهو في خطر
عظيم، فإن لم يكن هلك؛ فهو على شفا الهلكة.
الله يحب ذاته وأسماءه وصفاته:
فهو -عز وجل- يكسر عبده الذي يتعزز بعلم أو بعمل أو بمنزلة إما بمصيبة أو بأمر مؤلم أو بفوات مصلحة، ثم يجبر كسره.
الله -سبحانه- يحب أن يجبُر عباده:
ففي
غزوة "أحد" تعزز المسلمون بما وقع يوم "بدر"، وظنوا أنهم منصورون في كل
معركة، فكسرهم الله -عز وجل- بالهزيمة؛ ليتوبوا إليه خضوعًا وذلاًّ،
فيجبرهم الله -عز وجل-، فكذلك المصائب تكسر الإنسان، فإذا استشعر العبد
أنها مِن عند الله -عز وجل- فصبر واحتسب؛ جبر الله مصيبته، وأصلح عيبه،
وأعطاه خيرًا مما فقد منه، وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- فوائد غزوة
"أحد". "زاد المعاد 3/96-215".
وكذلك
ما حدث في غزوة "حنين"، فإن نفوسًا ضعيفة تعاظمت بالفتح وشعرت بالقوة،
وخرج مَن يقول: "لن نغلب اليوم من قلة"! فقال الله -عز وجل-: (لَقَدْ
نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ
أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ
عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (التوبة:25).
فحصل
الانكسار في أول المعركة، وفي آخرها جبر الله المؤمنين، وهذا فضله ورحمته
بعباده -عز وجل-؛ إذ يبتليهم بالمصائب فيكسرهم، ثم يجبر كل كسير.